عالم الرؤى عالم غريب وعجيب ، فهو ما تبقى للأمة من المبشرات بعد النبوة ، والرؤى الصادقة هي شكل من أشكال الإعلام الخفي الغيبي ينتقل للروح من عالم الغيب ، وفي آخر الزمان تصدق رؤى المؤمنين سواء المبشرة أو المحذرة .
وعلم الرؤى وتعبيرها علم عظيم اختص الله به أنبيائه وعلى وجه الخصوص تميز به النبي يوسف عليه السلام ، وكذا اختص به ورثة الأنبياء من العلماء الصالحين ، لكن لكونه علم رمزي في أغلب جوانبه لا يتصور من كل عالم رباني أن يتقنه ، بل هو من الدرجة الأولى منحة إلهية يختص الله بها بعض عباده العالمين .
من هذا الوجه أقول : يشترط للتعبير صفتان : حصول ملكة التأويل لدى صاحبها والمنحة الربانية المرافقة لها ، والثانية : العلم بأصول هذا العلم الغيبي العميق الرقيق .
أما لماذا العلم إضافة للملكة والموهبة الربانية ؛ فلأن الرؤى أشبه بالأمثال في رمزيتها ، بل الأمثال تعتبر جزء من رمزية الرؤى ، وقد بين القرآن الكريم أنه لا يعقل الأمثال الربانية إلا أهل العلم ، يقول الله سبحانه وتعالى : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }العنكبوت43
فكذلك الرؤى هي الأشبه بالأمثال ؛ لذا لا يتصور أن يعقلها بمدلولها الحقيقي إلا العالم في ميزان الله سبحانه وتعالى .
فالعالم هو الأقدر على فك رموزها ودلالتها الغيبية ، وهو الأقدر على التمييز بين المفارقات الدقيقة بين رؤية وأخرى أو رمزية وأخرى كالغل والقيد مثلاً ، فكلاهما رباط لكن أحدهما محمود (القيد) والآخر مذموم ( الغل ) .
وهو الأقدر على معرفة دلالة الحال وأثرها على تأويل الرؤية ، وهو بربانيته وعلو علمه يقتدر على كشف زيف الرؤى أو نقصانها أو الزيادة فيها ، أيضاً معرفة درجة تسلل الشيطان وحظه منها ، على سبيل المثال : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( جَاءَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي ضُرِبَ فَرَأَيْتُهُ بِيَدِي هَذِهِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْمِدُ الشَّيْطَانُ إِلَى أَحَدِكُمْ فَيَتَهَوَّلُ لَهُ، ثُمَّ يَغْدُو فَيُخْبِرُ النَّاسَ»([1])
كذلك العالم الرباني يستطيع أن يكشف مقدار حظ الشيطان حال تسلله للرؤى الصادقة حال الأماني التي تكون في الماورائية الذهنية للرائي ، وهذا الحظ أرشد إليه الله سبحانه وتعالى في سورة الحج يقول الله سبحانه وتعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }الحج52
فالآية صريحة أن الإلقاء الشيطاني يتسلل حال الأماني في الوحي المحض الصادق ، لكن لخلوص الوحي وحفظه من رب السماء رعاية للنبي والرسول كان الله يزيل وينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته .
فإذا كانت الأماني مدخلاً لتسلل الشيطان في الوحي ووليجة لإلقائه ، فمن باب أولى في الرؤى كجزء من الوحي يحصل لأناس عاديين .
كذلك العالم الرباني يستطيع أن يكتشف بعض الرؤى المتعارضة مع مدلول الوحي العام ، إذ لا تعارض حقيقي بين أجزاء الوحي ، وهنا يظهر رسوخ العالم في التأويل بما لا يتعارض مع مدلول الوحي العام حال كون الرؤية صادقة . على سبيل المثال عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ : ( أَنَّ رَجُلًا رَأَى رُؤْيَا: مَنْ صَلَّى اللَّيْلَةَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقُولُ: «اخْرُجُوا لَا تَغْتَرُّوا فَإِنَّمَا هِيَ نَفْخَةُ شَيْطَانٍ» ( )
وهذا من فقه ابن مسعود ورسوخه في العلم ؛ حيث عبر عن الرؤيا هنا بأنها نفخة شيطان بالرغم من أنها هاتف والهواتف أصدق الرؤى لكنه هاتف شيطاني ، واستخدم كلمة نفخة وليست همزة أو نفثة ، لأن تسلل الشيطان هنا هو من باب الخير ليدخلهم للابتداع والغلو في الدين واختراع ما ليس منه ، فناسب الأمر النفخ هنا . وقد حكم عليها ابن مسعود رضي الله عنه أنها نفخة شيطان لأنها تعارض مدلول الوحي العام وفتح باب للتعبد بغير ما شرع الله سبحانه وتعالى .
كذلك لفتة مهمة هنا وهي تختص بربانية العالم وملكته وهي القدرة على معرفة البشارة فيما ظاهره النذارة ، أو النذارة فيما ظاهره البشارة في بعض الرؤى على سبيل المثال هذه الرؤية التي عرضت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: ( مَرَّ صُهَيْبٌ بِأَبِي بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَالَكَ أَعْرَضْتَ عَنِّي؟ أَبْلَغَكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ إِلَّا الرُّؤْيَا رَأَيْتُهَا كَرِهْتُهَا، قَالَ: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: " رَأَيْتُ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْحَشْرِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «نِعْمَ مَا رَأَيْتَ، جَمَعَ لِي دَيْنِي إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ» ) ([2])
فظاهر الرؤية أنها منذرة لكن أبا بكر الصديق رآها نعم الرؤية حيث أولها بالخير العظيم له يوم الحشر . وفي ظني لو عرضت هذه الرؤية على أهل التأويل في عصرنا قد يعبرونها أنها منذرة ، وهنا تأتي قيمة الفهم وطبيعة حال الرائي أو المرئي له .
هذه لفتات بسيطة عن طبيعة علم الرؤى وعظمته ، وهو من أسمى أنواع الفتوى والتوقيع عن رب العالمين ، وللأسف تصدر هذا العلم على جلالته كثير من البغاث وضعاف البصيرة والعلم مما عزز فوضى في الفهم واضطراب في التصور عند الكثيرين المتابعين في هذا المجال ، وكنت اتمنى أن يتصدر هذا العلم أهله .
([1]) ابن أبي شيبة : المصنف ( 6/175)
([2]) ابن أبي شيبة : المصنف ( 6/179)